لمحة تاريخية
وقعت فلسطين تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية منذ عام 1519 حتى احتلها الانجليز في عام 1917 قرب انتهاء الحرب الكونية الأولى.
وكما هو معهود، قُسمت فلسطين إلى عدة ولايات أو سناجق، وكانت بمثابة ولاية تتبع إلى دمشق وصيدا. أما سنجق نابلس وغزة فقد تم إدارتهما بواسطة متصرف القدس وذلك قبيل تأسيس قضاء بئر السبع المنفصل عام 1900.
إزدادت ركينة الأتراك الفعلية في جنوب فلسطين فقط بعد تأسيس مدينة بئر السبع في قضاءٍ منفصل, فقبل ذلك تمت إدارة شئون القبائل مباشرة من غزة أو من القدس التي كانت المركز الإداري لهذه المنطقة. فقد ذكر مصطفى الدباغ في موسوعته (بلادنا فلسطين) أن منطقة النقب امتدت على مساحة تقدر بـ 12577 كم مربع امتدت من بئر السبع حتى العقبة, وأضاف إن اسم (النقب) استُعمل منذ زمن طويل على يد سكان هذه المنطقة الأصليين من العرب ومعناه (الطريق في الجبل), أما مركز المحفوظات الإنجليزي في لندن فتذكر مستنداته أن مصدر اسم النقب هو الكلمة السامية (نيقيب) التي تعني 'الأرض الجافة' وأيضاً بالعبرية هي (نيقيب) و (نجب) وتعني' الجنوب'.
ويبدو أن تجديد بناء مدينة بئر السبع كانت له دوافع سياسية واستراتيجية مختلفة دفعت الأتراك لاتخاذ مثل هذه الخطوة التاريخية. نذكر من هذه الأسباب تعزيز الوجود التركي في جنوب فلسطين خاصة بعد افتتاح قناة السويس عام 1869 وتحضيراً للحرب العالمية الأولى التي كانت على وشك الاندلاع, كما يُعتبر بناؤها محاولة لتشجيع القبائل البدوية على الاستقرار وتخفيفاً لحدّة الحروبات الداخلية بينها وإلحاح بعض مشايخ البدو على اتخاذ مثل هذه الخطوة الضرورية.
نلفت الانتباه إلى أن إحدى أبرز السياسات التي نهَجَها الأتراك تجاه البدو في الجنوب كانت محاولة توطينهم من أجل السيطرة عليهم. حاول الأتراك مراراً وتكراراً بعث حملات تأديبية لضرب قبائل فلسطين وإجبارها على الاستقرار مثلما فعل جمال باشا وغيره، لكن دون جدوى، حيث يبدو أن البدو تصدّوا لكل محاولات الأتراك لتوطينهم بل إنهم قتلوا الجنود الأتراك الذين حاولوا تأديبهم وإرغامهم على الاستقرار وإيقاف غزواتهم المتتالية وحروباتهم الداخلية.
ويذكر خبير الآثار الإسرائيلي دان غازيت أن الأتراك قاموا بالتخطيط لبناء عدة قرى بدوية في شمال النقب وبالقرب من غزة إبان القرن التاسع عشر نذكر منها:
- الكوفخة التي تم تأسيسها عام 1880، وكان سكانها الأصليون من غزة, وبُني فيها مسجد كبير وما زالت بنايته قائمة حتى اليوم.
- المحرَّقة التي تم تأسيسها على ما يبدو عام 1883، ومن أبرز معالمها بئر قديمة.
- خربة زحيليقة التي سكنتها بعض قبائل التياها.
أما القرى الأخرى فقد ضمّت خربة أبو بكرة, أبو ستة (خربة معين), الشعوط, الرويبة, خربة الحاسيف, خربة أبو معمر, والشيمالية.
كما نهج الأتراك سياسةً أخرى وهي بناء نقاط البوليس المختلفة في صحراء النقب من أجل السيطرة على القبائل وبسط الأمن والنظام عليها. فنرى أنهم قاموا ببناء محطة بوليس وادي مليح في الجهير عام 1894 والتي بناها رستم باشا (شرق أوفقيم اليوم), وآخرون ذكروا أن نقطة البوليس سميت بقلعة فطيس, كل هذا دلالة على سعي الأتراك الحثيث لتوطيد سيادتهم في منطقة النقب.
وهذا رشيد باشا حاكم سوريا يحاول أيضاً في عام 1870 بناء خطة لتوطين البدو في منطقة غزة وتشجيعهم على بناء بيوت ثابتة والتخلي عن التنقل من مكان إلى آخر ليسهل عليه السيطرة على البدو، والتي لم يفلح الأتراك في تحقيقها طوال فترة حكمهم، التي دامت ما يقارب أربعة قرون.
نلفت الانتباه إلى أن الأتراك اتخذوا نفس السياسة لتوطين البدو في مناطق نفوذهم المختلفة, فعلى سبيل المثال حين بُنيت مدينة بئر السبع قام الأتراك بعمل مماثل في العراق وهو بناء مدينتي الرمادي والناصرية في خطوة قام بها مدحت باشا.
ويبدو أن القبائل العربية في جنوب فلسطين آنذاك قد تصدّت لأي خطرٍ خارجي حاول السيطرة عليها وعلى أراضيها, فهذا محمد علي باشا وابنه إبراهيم أرسلا حملتهما إلى النقب عام 1831 من أجل توسيع نفوذ دولتهما المصرية في هذه المنطقة, مما أدى إلى ثورة بعض القبائل ضدّهما وضدّ أي محاولة للسيطرة على النقب. ويروي موشي ماعوز في كتابه إن قبائل البدو في النقب وشرقي الأردن تمرّدت ضدّ حكم محمد علي باشا حتى غادر عائداً إلى مصر عام 1840, بعد أن فشل في السيطرة الفعلية على المنطقة التي كانت تحت نفوذ القبائل البدوية.
بناء مدينة بئر السبع إبان نهاية الحكم التركي لفلسطين عام 1900م
إضافةً إلى الأسباب آنفة الذكر لبناء مدينة بئر السبع, فإن الأتراك قاموا ببناء مدينة بئر السبع عام 1900 كمركزٍ إداري جديد منفصل عن غزة من أجل إدارة شئون القبائل والسيطرة عليها, حيث تولى أمرها آصف بيك الدمشقي. يذكر عارف أبو ربيعة (2001) في كتابه أن الأتراك قاموا باقتناء 2000 دونم من المحمديين العزازمة بثمن مجيدي واحد للدونم من أجل بناء المدينة الحديثة. وهذا ما أكده اللورد اكسفورد حاكم بئر السبع الإنجليزي عام 1943 أن أرض بئر السبع كانت ملكاً للعزازمة.
يذكر أن تأسيس مدينة بئر السبع كان نتيجة مباشرة من الضغوطات التي قام بها شيخ العزازمة حسن الملطعة كما ذكر عارف العارف قائم مقام بئر السبع في الثلاثينات من القرن الماضي (1929-1939) وذلك من أجل وضع حدٍّ للاقتتال بين القبائل البدوية وإرساء دعائم الأمن والنظام في المنطقة. وقد بنيت وخُططت المدينة على يد معماريين أجانب وعرب فلسطينيين كان أبرزهم سعيد افندي النشاشيبي ومساعده راغب أفندي النشاشيبي وهم أبناء عائلة النشاشيبي إحدى أشهر وأعرق العائلات الفلسطينية. وبوضع حجر الأساس للمدينة تمت مزاولة المرحلة الأولى من البناء بإنشاء مباني الحكومة (السرايا) التي ضمت في البداية مدرستين لأبناء البدو, محكمة العشائر, محكمة شرعية, بريداً, مكتب القائم مقام, مركزاً للبوليس ومكاتب عمال البلدية. أما في المرحلة الثانية بين الأعوام 1904-1906 فقد بني المسجد الكبير بتبرعات سخية من أبناء البدو, وأتى آصف بيك الدمشقي بحجارة مئذنة المسجد من خربة الخلصة, ومن ثم تم بناء مدرسة للطلاب البدو ذات طابقين. في فترة آصف بيك الدمشقي أرسل عدداً من البدو للدراسة في مدرسة العشائر في اسطنبول. هذا بالإضافة إلى بناء السوق البدوية, المطحنة, ومحلات تجارية عديدة لتشجيع البدو على الاستقرار في ضواحي المدينة.
وفي عام 1915 إبان الحرب العالمية الأولى بنى الأتراك مع حلفائهم الألمان سكة حديدية تربط دمشق ببئر السبع-العوجا 'نيتسانا' لمحاولة احتلال مصر. وقد وصل أول قطار إلى بئر السبع في نهاية أكتوبر عام 1915 يتقدمه جمال باشا، وقد تم لاحقاً إتمام سكة القطار لتصل إلى سيناء وغزة.
في الذكرى الـ 90 لانتهاء الحرب العالمية الأولى: سقوط بئر السبع في أيدي الانجليز 31-10-1917
يبدو أن أحد أطماع الإنجليز إبان الحرب العالمية الأولى كان احتلال معقل الأتراك العسكري الواقع في بئر السبع والذي كان الحصن الحصين لجيش تركيا في جنوب فلسطين وقاعدةً لهم. فبمجرد سقوط بئر السبع كانت هذه نهاية الوجود التركي في منطقة الجنوب. وبعد أن احتل الإنجليز مصر عام 1882 سرعان ما توجّهت أنظارهم وأطماعهم إلى تلك المدينة من أجل ضرب مركز الأتراك العسكري والإداري هناك.
تنظَّم الأتراك لصدّ الخطر الإنجليزي القادم إلى بئر السبع بمساندة بعض مؤيديهم من مشايخ البدو الذين أرسلوا أفراد قبائلهم لمحاربة الانجليز دون جدوى- كما ذكر عارف العارف في بعض مصادره. إحتل الإنجليز إحدى أهم معاقل الأتراك وهي 'العقبة' في حزيران عام 1917 بمساندة الشريف حسين موجهين غاراتهم إلى عاصمة الجنوب بئر السبع.
وصلت قوات الجنرال ادموند اللنبي إلى مشارف بئر السبع واحتلتها في 31-10-1917 في تمام الساعة السادسة مساءً مما أدى إلى انكسار شوكة الأتراك وانسحابهم. هكذا كانت بئر السبع أول مدينة يحتلها البريطانيون في فلسطين في طريقهم إلى القدس التي دخلها اللنبي سيراً على الأقدام من باب يافا.
سقوط بئر السبع تحت الانتداب الانجليزي فتح صفحة جديدة في تاريخ النقب, فقد استمرت بئر السبع لتكون مقرّاً لهم لتلعب دوراً هاماً كعاصمة القضاء الجنوبي والمركز الإداري لعامة عرب النقب.
نهجَ الإنجليز سياسةً مغايرةً تجاه عرب النقب عمن سبقهم من الأتراك الذين لم يُفلحوا ببسط السيطرة على أهل الصحراء. لذا لجأ الإنجليز إلى سياسة جديدة تهدف إلى حكمهم بشكل غير مباشر بواسطة تقوية مراكز شيوخ القبائل وخرط البدو في أنظمة الدولة المختلفة مثل توليتهم مناصب مرموقة في إدارة بلدية بئر السبع وغيرها. ومن أمثلة ذلك أن بعض مشايخ البدو أصبحوا رؤساء لبلدية بئر السبع مثل الحاج علي العطاونة وحميد باشا الصوفي والشيخ فريح أبو مدين, تاج الدين شعت من غزة وغيرهم.
بعد أن احتل الإنجليز بئر السبع قاموا بعدة تنظيمات جديدة مثل تأسيس محكمة العشائر وإرساء دعائمها, وتعيين قضاة من مشايخ النقب لفض الخلافات العشائرية, فقد تكونت هذه المحكمة في بادئ الأمر من ستة عشر قاضياً ومركزها في بناية السرايا، إضافةً إلى تعيين عارف العارف الفلسطيني الشهير كقائم مقام بئر السبع لمدة عشر سنوات بين الأعوام 1929-1939.
تقرَّب الإنجليز من مشايخ البدو وحاولوا أن يفهموا حياتهم, كان الإنجليز شديدي الحذر أن لا يتدخلوا في شئون القبائل الداخلية وعدم المس بملكية أراضيهم. فقد اعترفوا بملكية البدو على أراضيهم دون تسجيلها, زيادةً على ذلك أنه في منطقة بئر السبع لم يطلب الإنجليز من البدو تسجيل أراضيهم. وكان بعض البدو يدفع الضرائب للانجليز خاصة أهالي غزة الذين قطنوا في المدينة وعملوا في التجارة، مما حدا بالإنجليز مطالبتهم بدفع الضرائب بمجرد مكوثهم في المدينة كما ذكر اللورد اكسفورد. بالإضافة إلى البدو, سكن مدينة بئر السبع أفراد من الخليل, والمجدل, وغزة, والقدس.
وفي مجال العمل الوطني برز مشايخ النقب بلقائهم الحاج أمين الحسيني عام 1935 في ديرة الشيخ ابراهيم الصانع. وفي هذا اللقاء تم أخذ ميثاق مشايخ النقب على عدم بيع أراضيهم للمستوطنين الجدد من اليهود. هذا بالإضافة إلى اشتراك بعض مشايخ النقب في تأسيس الحزب العربي الفلسطيني وحضور الاجتماع التأسيسي في القدس كما ذكرت الموسوعة الفلسطينية، مثل الشيخ إبراهيم الصانع, وحسين أبو ستة وآخرين. كما كان هناك تمثيل لمشايخ النقب في المحادثات السرية مع الإنجليز برزت فيها مشاركة الشيخ فريح أبو مدين. وقد ركّز الشيخ إبراهيم الصانع، كما ذكر بيير وحنينا بورات، مِراراً على عدم بيع الأراضي والتفاف القبائل حول بعضها البعض في ذلك الوقت العصيب.
لكن لعل أبرز خطوة نهجها الإنجليز تجاه عرب النقب كان خرطهم في الجيش لأداء مهام مختلفة وتاسيس 'الهجانة'- راكبي الإبل من البدو- لأداء مهام بوليسية وعسكرية مختلفة. جزء من الهجانة خدم أيضاً كبوليس لاسلكي في النقاط العسكرية التي بناها الإنجليز في الثلاثينات والأربعينات. هذا ما أكده لي الحاج سليمان اصبيح أبو ربيعه الذي خدم في نقطة أم رشرش (إيلات) كبوليس لاسلكي في المقابلة التي أجريتها معه. ذكر أبو ربيعة بعض هذه النقاط منها: عسلوج, عوجة الحفير, كرنب, راس زويرة, وادي غمر, أم رشرش, العمارة, الجمامة, القسيمة, الخلصة, عين حصب, عين غديان وتل الملح. كما كانت هناك مجموعات من البدو عملت كقصاصي أثر لأداء مهام حدودية مهمة للإنجليز.
محطة شرطة الهجانة غربي رهط
أدى مشايخ البدو مهام تنظيمية هامة إبان الحكم الإنجليزي, فقد اجتمعوا مرّاتٍ عديدة في الأردن وسينا والنقب من أجل البت في حل المشاكل الداخلية ووقف الاقتتال بين القبائل. وإبان دراستي في لندن وجدت وثائق عديدة بعثها مشايخ البدو إلى حكومة الانتداب البريطاني من أجل البت في أمور القبائل المختلفة. إحدى هذه الوثائق الهامة التي حصلت عليها كُتبت عام 1937 على يد مشايخ النقب وذُيلت بختم الشيخ عزات العطاونة. طالب المشايخ حكومة الانتداب كما جاء في هذه الوثيقة عدم المس بملكية أراضيهم والاعتراف بها بموجب العادات المتعارف عليها عند البدو وعدم تسجيلها، والتخفيف من دفع الضرائب، وعدم المساومة على الأرض وبيعها, والمطالبة بفتح مدارس لأبناء البدو في مناطق بير السبع.
صورة لوثيقة الشيخ عزات العطاونة
بقي الإنجليز على هذه الحال حتى أيار من العام 1948 عندما انسحبوا من البلاد تاركين وراءهم منطقة نفوذهم الذي دام ما يقارب ثلاثة عقود.
يذكر أن ثورة عامة سادت البلاد بين الاعوام 1936-1939 وجد فيها الانجليز صعوبات جمة في السيطرة على البلاد, إذ أن فصائل الثوار من البدو وغيرها سيطرت على بئر السبع لفترة وجيزة. في عام 1938 تمكّن الثوار بقيادة عبد الحليم الجولاني (الملقب بأبي منصور) من احتلال بئر السبع وطرد الحامية البريطانية منها. ذكر عارف العارف في يومياته التي اطلعتُ عليها في أرشيف جامعة أكسفورد أن البدو رفضوا قبول الكتاب الأبيض وذلك أثناء الزيارة التي قام بها المندوب البريطاني الأعلى إلى قبيلة الترابين في النقب في حزيران عام 1939. أما قبيل انسحاب الانجليز من المدينة في 14-5-1948, فقد اجتمع الانجليز بمشايخ النقب في بئر السبع لينهوا فترة استعمارهم لهذه المنطقة.
صورة عن خبر اجتماع المشايخ مع الانجليز- من عام 1947 في صحيفة فلسطين بوست حول اجتماع مشايخ النقب بالمندوب البريطاني قبيل مغادرة الإنجليز البلاد (نقلت عن الأرشيف الصهيوني المركزي في القدس)
بمغادرة الإنجليز بئر السبع رُفع العلم الفلسطيني على بنايات السرايا في المدينة علي يد شفيق مصطفى رئيس البلدية بحضور عرب وبدو المنطقة حتى وصل الجيش المصري واستلم المدينة لفترة قصيرة لتسقط بئر السبع في يد القوات الاسرائيلية في 21-10-1948 معلنة بذلك فتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة وتاريخ هذه المدينة العريقة التي هجر غالبية أهلها إلى الأردن, مصر, غزة وجبال الخليل.
-----------------------------
* إعتمد المقال على مصادر تاريخية عديده ومقابلات مختلفة أجراها الكاتب في منطقة النقب كجزء من رسالة الدكتوراة.
* أهم نقاط هذه المقالة ألقاها الأستاذ منصور النصاصرة في أواخر الشهر الماضي في واشنطن في مؤتمر أكاديمي لدراسات الشرق الأوسط.